اليمن بين سندان الفساد ومطرقة الإرتزاق| كتب سعيد النخعي
حضر الشيخ الشائف إلى القصر الجمهوري في إحدى مناسبات عيد الأضحى، لسلام على الرئيس صالح، وكان بجواره الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، فبادر الرئيس صالح الشيخ الشائف بقوله : مبروك يا شيخ قالوا : تستلم راتب من السعودية، فردَّ الشائف بقوله: نعم، أقل من راتبك أنت، والشيخ عبدالله بقليل !
هذه الواقعة تعكس مدى تغول الفساد في الدولة اليمنية، وانتشار ثقافة الإرتزاق في المجتمع اليمني ، تساوى فيها الحاكم والمحكوم، السلطة والمعارضة، الكبير والصغير، وتعددت طرقها، وأساليبها، لكن ظل الإرتزاق هو أسرع طرق الكسب غير المشروع ، إلى جانب نهب المال العام، واستغلال الوظيفة العامة، وهما العلامتان المميزتان لكل الأنظمة العربية، وغيرها من الدول المتخلفة، بخلاف ثقافة الإرتزاق التي تكاد تكون سمة يمنية خالصة.
ففي زمن السلم تكون حكرًا على الساسة، الذين غادروا السلطة إلى الخارج، أو الذين لايزالون في انتظارها على دكة الاحتياط في الداخل، وأتباعهما من أرباب السيف والقلم.
وفي زمن الحرب تتحول إلى سوق؛ يتنافس فيه العوام، والنخب، كما نراه اليوم منذ ثمان سنوات؛ تحولت فيها اليمن إلى سوق مفتوحة، للعمالة، والارتهان لأموال الخارج، ومع ذلك فكل مرتزق، وكل مرتهن ينعق بأعلى صوته بأنه أشرف من عرفته اليمن، وهو وحده المؤتمن، ولربط الحاضر بالماضي أذكر قصة طريفة للفريق أول صلاح المحرزي؛ أحد الضباط المصريين الذين تعاقبوا على قيادة القوات المصرية في اليمن، أبان حرب الجمهوريين الملكيين، حين سُؤل في برنامج شاهد على العصر، ماهو السبب الرئيس الذي أطال أمد الحرب كل هذه المدة في اليمن؟ فرد بلهجته المصرية ( السبب الذي أطال أمد الحرب في اليمن كانت هناك باريزة متدوالة في اليمن شكلها حلو أوي – ويقصد ريال ماريا تيريزا، ويسمى بالعامية الريال الفرنسي- فكنا نعطي القبيلي الصبح باريزة فيعطينا الإحداثيات صح عن الملكيين، فيأتي الملكيون في الليل فيعطوه باريزتين فيعطيهم الإحداثيات صح عن الجمهوريين، وظل القبيلي شغال رايح جاي بين الملكيين والجمهوريين.
وقبل انتهاء الحرب بين الطرفين دعت السعودية كل القوى القبلية ملكية وجمهورية للمصالحة، قبل التوافق على الحل الذي كان خيارًا خارجيًا؛ فرضته الرياض والقاهرة، فبينما كان المشائخ يتوافدون إلى خيمة الملك فيصل، وكان رجال المراسم عند استقبال كل شيخ يعطوه ظرفًا- وكلنا يعرف ما بداخل الظرف – قبل أن يدخل إلى الخيمة، فتوافق المشائخ على أن يتم تلقين الشيخ القوسي الحل من قبل القائمين على الدعوة، ليقوم باقترحه أمام الحاضرين، فقالوا: للشيخ القوسي قل نريد دولة إسلامية، لا جمهورية ولا ملكية، والجميع سيوافق ، قال ناهي، فقام القوسي في الحاضرين قائلًا نريد دولة، نريد دولة، نريد دولة، نسي العبارة التي لقنوه إياه، فقال نريد دولة ربيس، فوافق الجميع على دولة الربيس، لهذا ظل وضع اليمن ربيسًا لم يتغير لا في زمن الملكية ولا في زمن الجمهورية، ولا في مرحلة الوحدة ولا مرحلة التشطير.
من خلال رواية الشائف والمحرزي والقوسي، التي تؤكدها مجريات الأحداث التي تمر بها اليمن منذ ثمان سنوات حتى اليوم، يتبيَّن أن ثقافة الإرتزاق أصيلة في المجتمع اليمني،لا أحد يستطيع أن يتجاهلها، أو يقلل منها، كما أن ظاهرة نهب المال العام بصورة عامة، ظاهرة أصيلة في الإنسان العربي عمومًا، واليمني بشكل خاص، وخصوصيتها في اليمن نتيجة لترهل قبضة القانون، الذي استطاع أن يقلم أظافرها في كثير من الدول العربية لكنه لم يقض عليها نهائيًا، بعكس الدول المتقدمة، والسبب في ذلك كما يقول عالم الاجتماع الكبير علي الوردي: أن العقلية العربية قامت في الأصل على ثقافة الغلبة؛ نتيجة للصراع على موارد الصحراء الشحيحة أصلًا المتمثلة في الماء والمرعى، فحين لم تقبل القسمة على اثنين كان البقاء فقط للأقوى، لذا قيل العربي نهاب وهاب فما ينهبه ينفقه لبقاء الجاه، الذي هو سمة القوة، التي تعد من أهم مصادر الثروة وحين انتقل الإنسان العربي إلى طور الدولة، تحوَّل الصراع إلى صراع على السلطة التي هي مصدر المال والجاه معًا.
فالفساد حين يكون سمة مجتمع يكون من الخطأ تناول هذه الظاهرة من خلال عينة محددة، أو الاستدلال عليها بحادثة معينة، ينتح عنها الخلط بين مفهوم العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، لأن الانتقائية عند الحديث عن مجتمع ينخره الفساد،ولا يفرق بين فئة وأخرى، فالمسؤل سارق، والصحفي الذي ينشر فساده مرتزق مأجور، والمواطن الذي يتعاطى مع ما ينشره نفسه متحفزة للحصول على المال لكنه لم يجد ما ينهبه، نكون بذلك قد اختزلنا فساد المجتمع، والدولة في ظاهرة عابرة، أو حادثة معينة؛ أشبة بمن يجري عملية تجميل لموضع من الوجه هو في الأصل كله مشوها.