الجيل القادم من “قصيري القامة”… ارتفاع التقزم لدى الأطفال في دول عربية
شمسان بوست / وكالات
لم تتخيّل منى أن يصل حرمان أولادها إلى أقلّ حقوقهم واحتياجاتهم، بدأ حرمانهم من شراء الثياب والألعاب والسكاكر منذ سنتين. ووصل اليوم إلى حدّ حرمانهم من الأكل. تعمل المرأة الثلاثينية مدبرة منزلية، لكن المال المتبقي بعد تسديد أجرة البيت والالتزامات الشهرية، لا يكفي لإعداد طبق يومي، فبات الخبز والماء والبقوليات هي ما يسد رمق جوع الأطفال بالكاد.
ومنى هي نموذج للكثير من العائلات في لبنان التي اختزلت الوجبات الغذائية لتكتفي بوجبة واحدة في اليوم، في ظلّ تنامي الأزمة الاقتصادية والعوز الذي انعكست تداعياته على صحة الأطفال وتغذيتهم وسلامة نموهم.
ماء وسكر بدل الحليب
تخلّى البعض عن تناول اللّحوم والدجاج والسّمك والألبان والأجبان وحتى الخضار، وصارت موائدهم لا تحوي غير الخبز وبعض البقول كالعدس والبرغل. ومن يعجز عن تأمين الحليب لطفله، استبدله بالماء والسّكر أو الماء مع الأرز المطحون، ما يعني فقدان الأطفال للعناصر الغذائية الأساسية اللازمة لهم.
ولبنان من بين دول المنطقة التي تستورد أكثر من 90 في المئة من غذائها، وتعاني من سوء التغذية بين الأطفال أصلا، بسبب الأزمات المستمرة فيها.
ويتلقى 36 في المئة فقط من صغار الأطفال في المنطقة التغذية التي يحتاجونها للنمو بطريقة صحية.
وتعتبر المنطقة أيضا موطنا لمعدلات عالية من النقص في التغذية ونقص المغذيات الدقيقة. ويعاني ما معدّله واحد من كل خمسة أطفال تقريبا من التقزم، بينما يبلغ متوسط معدل الهزال ما نسبته 7 في المئة.
والتقزم يشير إلى الطفل الذي يعاني من قصر القامة بالنسبة لعمره، فيما يعني مرض الهزال أن الطفل نحيف للغاية (النحيل) بالنسبة لطوله. أما نقص التغذية فيشير إلى التقزم والهزال معا.
وأفاد تقرير لصندوق الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” العام الماضي، بانخفاض معدلات التطعيم الروتيني في لبنان للأطفال بنسبة 31 في المئة، “وهي معدلات أصلا منخفضة بالفعل بشكل مقلق”، وحذرت اليونيسف من أن يؤدي ذلك إلى “ظهور مجموعة كبيرة من الأطفال غير المحميّين المعرّضين للأمراض وتأثيراتها”.
وأضافت المنظمة الدولية “يظهر المسح الوطني للتغذية في لبنان لعام 2021 أن المؤشرات الغذائية الرئيسية للأطفال الصغار ضعيفة في أيامهم الأولى من الحياة وتزداد سوءا مع مرور الوقت، وأكثر من 90 في المئة من الأطفال لا يستوفون معايير الحد الأدنى للحصول على الوجبات الغذائية المتنوعة والمتكررة، التي يحتاجون إليها، أو النظام الغذائي المقبول خلال الفترة الحاسمة في حياتهم التي تساعدهم على النمو والتطور حتى سن الثانية”.
ومع تغيّر الهرم الغذائي في لبنان، باتت النشويات كالأرز والخبز والمعكرونة تتربع على رأس الهرم، تليها الخضراوات والحشائش ثم السكريات فالزعتر الذي يليه الفاكهة فالمزروعات الجذرية كالبطاطا والشمندر، ومن ثم الزيوت والزبدة، بعدها الحليب ومشتقاته، فاللحوم والبيض تليهما الحبوب وأخيرا السمك.
وتوصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى ارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان ما دون سن الخامسة نتيجة سوء التغذية.
وأكّدت مهى حطيط، خبيرة الأغذية في المجلس، أن “المجلس الوطني قام في المرحلة الأولى بدراسة بحثية مرجعية لمعدّل التقزّم عند الأطفال ما بين العامين 2004 و2021، ليتبيّن أن نسبة التقزم عند الأطفال في لبنان معدّله حوالي 9.7 في المئة”.
وأضافت حطيط أن “المرحلة الثانية هي عبارة عن إجراء دراسات ميدانية، ومن خلال إحدى هذه الدرسات الميدانية التي صدرت نتيجتها ثبت أن معدّل التقزّم عاد وارتفع من 9.7 في المئة إلى 12 في المئة بعد العام 2021، وهذا رقم كبير جدا بالنسبة لمنطقة الدول العربية، حيث لا يتخطى معدّل التقزم نسبة 7 في المئة”.
وتابعت “أما بالنسبة لمعدّل زيادة الوزن والبدانة بين العامين 2004 و2021 فكان بنسبة 18.9 في المئة، أما اليوم فارتفع إلى 26 في المئة بآخر دراسة ميدانية قمنا بها، وطبعا على صعيد كل محافظات لبنان”.
وشدّدت على أن “الأمر خطير، فالتقزّم يعني أننا سنواجه أجيالا جديدة قصيرة القامة وعندها سوء تغذية مقارنة بالأجيال السابقة، ما سيؤثّر حتما على المستوى التعليمي والأكاديمي”.
ويُعرف قصر القامة بالنسبة إلى العمر بالتقزم، وينجم بحسب منظمة الصحة العالمية “عن نقص التغذية المزمن أو المتكرر، وعادة ما يرتبط بتردي الظروف الاجتماعية الاقتصادية، وتردي صحة الأمهات وتغذيتهن، والاعتلال المتكرر، وعدم تغذية الرضع وصغار الأطفال ورعايتهم على النحو الملائم في مراحل الحياة المبكرة”.
ويشمل سوء التغذية في جميع أشكاله، بحسب منظمة الصحة العالمية، نقص التغذية (الهزال والتقزّم ونقص الوزن)، ونقص الفيتامينات أو المعادن، وفرط الوزن، والسمنة، والأمراض غير السارية المرتبطة بالنظام الغذائي، حيث يعاني 1.9 مليار شخص من فرط الوزن أو السمنة، في حين يعاني 462 مليون شخص من انخفاض الوزن، كما يعاني 52 مليون طفل دون سن الخامسة في العالم من الهزال، و17 مليون طفل من الهزال الوخيم، و155 مليون طفل من التقزم، في حين يعاني 41 مليون طفل من فرط الوزن أو السمنة.
وبحسب المجلس الوطني للبحوث العلمية، ارتفع معدل البدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان من 18.9 في المئة بين عامي 2004 و2021 إلى 26 في المئة.
وأفادت حطيط بأنه “رقم كبير جدا، لاسيما وأن المعدل العالمي للبدانة عند الأطفال يتراوح ما بين 5.7 و9 في المئة، ما يشير إلى أننا في مرحلة خطيرة، كونه يعني عدم حصول الأطفال على الفيتامينات والمعادن التي يحتاجونها لنموهم السليم، وهذا ما يعرف بالجوع الخفي”.
وأوضحت “من بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان، نقوم بدراسات ميدانية مستمرة، فالدراسة الأولى التي أجريت في بداية الأزمة في لبنان أثبتت أن 53 في المئة من العائلات تعاني من انعدام وعدم تنوّع في الأمن الغذائي، أي أن كمية الفيتامينات والمعادن غير صحية لتأمين الكميات اللازمة للأطفال”.
وبعد مرور عام ونصف العام على الدراسة الميدانية الأولى، تمت إعادة الدراسة وارتفع المعدّل من 53 في المئة إلى 72 في المئة، ما يعني أن كمية الفيتامينات والمعادن غير كافية بسبب عدم التنوع الغذائي، وهذا الأمر واحد من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ارتفاع النسب.
وبالإضافة إلى عدم التنوع الغذائي، كانت عوامل أخرى من أهم المسببات للأزمة الصحية لدى الأطفال، مثل ازدياد نسبة الفقر في لبنان والوضع الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي وأزمة أوكرانيا التي رفعت في معدّل انعدام الأمن الغذائي، فهذه كلها أسباب أساسية رفعت نسبة التقزّم عند الأطفال.
وتكمن خطورة التقزّم في نتائجه الوخيمة على صحة الأطفال البدنية والنفسية وقدراتهم المعرفية. فهو يتسبب بضعف المناعة وما ينتج عنه من بطء في عملية الشفاء من الأمراض والجروح والتعرض أكثر للأمراض المعدية. بالإضافة إلى صعوبة في التركيز وبالتالي ضعف قدرتهم على التعلم وعلى الإنتاج والمساهمة في المجتمع لاحقا. ويمكن أن يسبب الاكتئاب والقلق في بعض الأحيان.
صورة مقلقة
تسأل ممثلة منظمة الأمم المتحدة للطفولة بالإنابة في لبنان إيتي هيغينز في مقدّمة تقرير المنظمة “التغذية في أوقات الأزمات”، “ماذا، متى، وكيف يأكل الأطفال قبل عمر السنتين في لبنان؟”، باعتبار أنّ ما يتناوله الأطفال في هذا العمر هو أهم ما قد يحصلون عليه في أي مرحلة عمرية أخرى في حياتهم.
وتجيب “باختصار لا يحصل الآلاف من الرّضع وصغار الأطفال في لبنان على التغذية التي يحتاجونها للبقاء على قيد الحياة والنمو”، وإذا ما توسّعنا نحن في الإجابة، نجد معطيات صادمة ومؤلمة جدا.
وهذه الصورة المقلقة حول انعدام الأمن الغذائي عند الأطفال ظهرت جليا في نتائج المسح الذي نفّذته وزارة الصّحة العامة في لبنان في العام الماضي بدعم من اليونيسف، وشمل أطفالا دون الخامسة من عمرهم ونساء في سن الإنجاب. وبحسب المسح الذي نشرت نتائجه في تقرير “التغذية في أوقات الأزمات”، فإن “تسعة من كلّ عشرة أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و23 شهرا لا يتلقون الحد الأدنى من النظم الغذائية اللازمة لصحتهم ونموّهم وتطوّرهم”.
كما يشير إلى أنّ “نحو 200 ألف طفل دون الخامسة في لبنان يعانون أحد أشكال سوء التغذية، مثل فقر الدم، نقص النمو (التقزّم)، مرض الهزال (انخفاض الوزن بالنسبة للطول). وتتوقع منظمة الأمم المتحدة للأطفال في تقرير نشرته في فبراير الماضي حول نتائج المسح ذاته “ارتفاع هذه الأعداد بشكل كبير في ظل عدم ظهور أي بوادر حلول للأزمات المتشعبة في لبنان”.
وترى هيغينز أن عواقب ما يحصل ستكون وخيمة جدا ولا ينفع معها الندم، مع العلم أن تفاديها ممكن إذا تحرّك جميع أصحاب المصلحة لاتخاذ إجراءات الآن، من أجل ضمان حصول كل طفل وامرأة في لبنان على التغذية التي يحتاجون إليها للنمو والبقاء على قيد الحياة.
وهناك حاجة ماسة إلى اعتماد نهج متعدد الأنظمة، يشمل الغذاء والصحة والمياه والصرف الصحي والتعليم والحماية الاجتماعية، لمعالجة سوء التغذية المتفشي في لبنان، على أن يترافق ذلك مع تسهيل الوصول إلى النظم التغذوية الصحيحة وتعزيز الممارسات الصحية في مختلف أنحاء البلاد.
ويؤكد أمير حسين ياربارفار، منسّق قطاع التغذية في لبنان، أن “تحسين التغذية يساهم في حماية صحّة الأطفال وأمهاتهم من خلال الحدّ من الأمراض والوفيات. كما من شأنه تحسين التطور المعرفي والأداء المدرسي والنشاط البدني. لذا، لا يوجد أدنى شك بأن الاستثمار في التغذية لا يفي بحقّ الأطفال في الصحة وحسب، بل هو استثمار ذكي أيضا، وفعال جدا لجهة التكلفة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في لبنان”.
ويضيف أن “توسيع نطاق التغذية يتطلب شراكة قطاعات عديدة تتضافر من أجل دعم الحكومة ومعالجة الأسباب المباشرة والأساسية لسوء التغذية، وتعزيز قدرات الجهات الفاعلة في مجال التغذية في لبنان”