الدولة المستقلة.. خداع وتضليل أميركي
شمسان بوست / متابعات :
في ظلّ اشتداد العدوان الإسرائيلي على غزة، خرج علينا الرئيس الأميركي جو بايدن بالدعوة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة حاول تسويقها خلال زياراته للمنطقة، والجولات المكوكية لوزير خارجيته أنتوني بلينكن.
وقد استبق بايدن نهاية الحرب ليعلن هذا التوجه، على عكس ما جرى عام 1991 عندما تم الإعلان عن مؤتمر سلام إقليمي يشارك به العرب والكيان الصهيوني، وذلك بعد هزيمة العراق في الحرب التي شنها تحالف حشدته واشنطن ضده بعد احتلاله الكويتَ.
هذه المرة تريد الإدارة الأميركية وضع العربة أمام الحصان، وتحاول استباق الأحداث، بهدف إنقاذ الكيان الصهيوني من ورطته، وتتويج الحرب بحل سياسي ثبَت فشله عبر مسيرة تسوية دامت أكثر من 30 عامًا، وقُوبل برفض من إسرائيل!
يهدف هذا الطرح إلى إحداث تغيير في أجواء التفاعل والتضامن في المنطقة العربية مع المقاومة الفلسطينية، وتحويل الاهتمام بها لدى الشعوب العربية إلى عنوان سياسي زائف، وكذلك تخفيف النقمة العارمة في الغرب وفي العالم على الكيان
أهداف التحرك
يأتي هذا التحرك الأميركي كمحاولة لاستعادة زمام المبادرة في المِنطقة، بعد أن ضرب “طوفان الأقصى” الإستراتيجية الأميركية بالتركيز على أولوية مواجهة الصين وروسيا، وتوكيل الكيان الصهيوني مهمةَ حفظ مصالح الولايات المتحدة في المنطقة بعد خروجها منها.
وقد أدى اهتزاز صورة الكيان بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلى خلخلة كبيرة في الإستراتيجية الأميركية التي سعت لإدماج الكيان في المنطقة العربية بعد تصفية القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى قضية هامشية، باستكمال عملية التطبيع والتحالف بين الدول العربية والكيان الصهيوني، التي ستتوج الكيان على رأس المنطقة بما يملكه من إمكانات تكنولوجية وقوة عسكرية وأمنية.
ظهر الكيان الصهيوني بحالة عجز وضعف غير مسبوقة بتاريخه، وفقد صورته كجيش لا يقهر، وتخلخلت نظريته للردع، حيث بدا ضعيفًا مهزوزًا خائفًا، بشكل استدعى التدخل المباشر للولايات المتحدة لإنقاذه من ورطته، ومنع خصومه من انتهاز هذه الفرصة التاريخية للانقضاض عليه، فضلًا عن التخوف من ردود فعله غير الموزونة، التي قد تلحق به هزيمة أخرى لا تقل في سوئها عن هزيمة 7 أكتوبر/تشرين الأول.
لم يكن كافيًا بالنسبة لواشنطن أن تمد هذا الكيان بما يحتاجه من دعم عسكري وأمني وتوفير الغطاء السياسي لعدوانه، بل كان لا بد من ضمان استمرار دوره، وتجاوز الهزة التي وقع فيها من خلال طرح مشروع الدولة المستقلة، الذي يؤمّن إعادة إدماجه في المنطقة من خلال عملية التطبيع وما يتلوها، وهو الأمر الذي سيثبت الإستراتيجية الأميركية، ويتجاوز الضرر الذي لحق بها.
وفي سبيل تحقيق ذلك، فلا بد من اختطاف انتصار المقاومة، وتأثيراته الإيجابية المحتملة على القضية والمنطقة، بما في ذلك إيجاد إجماع فلسطيني على برنامج سياسي قائم على برنامج المقاومة، ونبذ عملية التسوية التي فشلت في تحقيق أي إنجاز للشعب الفلسطيني، وتشكيل إشعاع في المنطقة يعزز آمال الشعوب بتحقيق حريتها والانعتاق من قيود حكامها، ويجمّد أو يوقف عملية التطبيع مع الكيان.
كما هدفت المبادرة لتمكين سلطة فلسطينية (متجددة) وملتحقة بإسرائيل تحت عنوان زائف غير واقعي، ووعد غير قابل للتحقق، في ظل الموقف الإسرائيلي الذي يرفض بمختلف تياراته القبول بالدولة المستقلة حتى ولو كانت منزوعة السلاح كما وصفها بايدن.
كما يهدف هذا الطرح إلى إحداث تغيير في أجواء التفاعل والتضامن في المنطقة العربية مع المقاومة الفلسطينية، وتحويل الاهتمام بها لدى الشعوب العربية إلى عنوان سياسي زائف، وكذلك تخفيف النقمة العارمة في الغرب وفي العالم على الكيان، بإشغال المنطقة بعملية سياسية تستهلك جهودها وتعلّقها بأمل زائف ثبت بالتجربة أنه غير قابل للتحقيق.
هذا يسوقنا لموقف حكومة المتطرفين الإسرائيلية التي عبرت وبعناد عن رفض هذه الدولة ومعاندة أميركا التي تريد انتشالها من هزيمتها، وهي بذلك تشبه الحيوان الثائر الذي يتفلت من راعيه، ويصر على أن ينطح الحائط بقرنيه ليتسبب بتكسير رأسه!!
الأخطر من هذا، أن حكومة بايدن تريد أن تصرف الانتباه عن الاحتلال والعدوان الهمجي الإسرائيلي، بجر السلطة الفلسطينية والدول العربية والقفز إلى ملهاة الدولة المستقلة، تمهيدًا للأخطر، وهو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وذلك على الرغم من أنها وفرت الدعم الكامل لاستمرار العدوان، وأكدت على حق الكيان فيما أسمته الدفاع عن نفسه، ورفضت بإصرار الدعوات لوقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة.
صحيح أن إدارة ترامب السابقة التي سوَّقت لصفقة القرن، ولم تتحدث عن الدولة المستقلة وركزت على السلام الاقتصادي، إلا أن مسعى إدارة بايدن لا يختلف في منتجه النهائي عن صفقة القرن، وهو التطبيع والسلام الاقتصادي، والتمكين للكيان لقيادة المنطقة.
كما يسعى بايدن لإنجاز تطبيع في المنطقة يقدمه كإنجاز لإدارته على أبواب انتخابات الرئاسة الأميركية، وذلك لتعويض خسائره الانتخابية أمام منافسه ترامب، ومواجهة انتقادات التيار اليساري في حزبه؛ بسبب انحيازه الصارخ للكيان، وعدم ممارسة ضغوط حقيقية عليه لوقف استهداف المدنيين في غزة.
موقف إسرائيلي متشدد
أعلنت منظمة التحرير قيام الدولة الفلسطينية عام 1988 على الأراضي المحتلة عام 1967، وقد كان إعلانًا شكليًا؛ لأن الفلسطينيين لا يسيطرون على هذه الأرض، ولكن اتفاقيات أوسلو عام 1993 حدّدت سقفًا زمنيًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة عام 1999، بعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل، ولكن ذلك لم يحدث حتى الآن!
كما عَرضَ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، في مفاوضات كامب ديفيد عام 2001 – في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون – إقامة دولة منزوعة السيادة والسلاح، وبدون سيطرة على الموارد الطبيعية والأجواء والبحر، على أن يتنازل الفلسطينيون عن القدس، وهو ما رفضه الرئيس الراحل ياسر عرفات، وكان سببًا في اغتياله عام 2004.
كما فشلت اللجنة الرباعية -التي كانت تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة – في تحقيق وعد الدولة حتى بعد توقف انتفاضة 2000، لتستمر إسرائيل بقضم الأراضي وتهويد القدس، وليتضاعف عدد المستوطنين ويقفز من 115 ألفًا عام 1993 إلى 750 ألفًا عام 2023.
ولذلك، فإن الحقيقة السياسية الأساسية لدى الكيان، هي أنه لا يوجد أي حكومة في الكيان تقبل بدولة فلسطينية مستقلة، وهذه الحكومة هي الأشد في رفضها.
حاول بايدن إلزام نتنياهو بالدولة المستقلة، حينما قال: إن الدولة الفلسطينية بوجود نتنياهو ليست مستحيلة، وإنه معجب بفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح. ولكن نتنياهو سارع لتكذيبه والتأكيد على تمسكه بموقفه، وأعلن أنه يرفض التنازل عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على كامل المنطقة الواقعة غرب الأردن،وهذا يتعارض مع الدولة الفلسطينية.
ويأتي هذا مع النزوع المتزايد لنتنياهو إلى الكهانيّة التي يمثلها المتطرفان بن غفير، وسموتريتش، والتي تؤمن بأن لإسرائيل الحق في كل ما يقع بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وعدم التخلي عن أي جزء منها، وأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية -حتى وإن كانت بلا سيادة حقيقية- هو خطر على إسرائيل.
لذلك تشن هذه الحكومة حرب إبادةٍ جماعية وتطهيرٍ عرقي لتثبيت هُوية الكيان، وإلغاء الهُوية الفلسطينية؛ لأنها لا ترى شعبًا موجودًا بجانبها، وتسعى لتهجيره إلى خارج فلسطين التاريخية.
عبر الكاتب ليان فولك ديفيد عن حقيقة المواقف الإسرائيلية من الدولة المستقلة في مقال له في هآرتس في 6 فبراير/ شباط 2024، عندما قال: “إنه بإمكان حكومة نتنياهو الإجابة بالإيجاب عن الخطاب البنّاء في المبادرة الأميركية. كل الأطراف تدرك أن إقامة الدولة الفلسطينية، أمر غير عملي في المدى المنظور.
لذلك فإنّه لا يوجد أي سبب يمنع إسرائيل من أن تدفع بالتصريح بأنها لا تعارض حلَّا لدولتين، إذا كانت الظروف مناسبة في المستقبل. يجب على الحكومة التوضيح للعالم بأنها لا ترغب في السيطرة على القطاع، وأن عليها أن تستثمر بشكل فعّال في بناء بديل مدني لحماس. هذه السياسة الخارجية هي أولًا وقبل أي شيء آخر مصلحة أمنية لإسرائيل. كل يوم تستمر فيه إسرائيل في قول “لا” فإن الزخم السياسي والأمني الذي نشأ بعد 7 أكتوبر لا يتآكل فحسب، بل يتم تحطيمه أيضًا”.
اليوم التالي للحرب
مع هذه الحقيقة، فإن ما تقوم به واشنطن هو نفاق وتضليل وكذب، ومحاولة للتلاعب بالألفاظ للتغطية على دعمها اللامحدود للكيان في حربه على غزة. كما أنه يعتبر محاولة للتغطية على فشلها في التعامل مع رجل متمسك بالسلطة ورضوخها للوبي اليهودي، رغم أنها سبق أن تحدّثت عن خلافات شديدة مع نتنياهو حول ما بعد الحرب والتخفيف من استهداف المدنيين!
في هذا السياق، تأتي دعوة السيناتور الأميركيّ بيرني ساندرز، الرئيسَ بايدن لرفض سياسات حكومة نتنياهو اليمينية بشكل واضح، ودعوة الكونغرس للتحرك، وعدم توفير المزيد من المساعدات العسكرية الأميركيّة لحكومة نتنياهو، وهو ما لم تقمْ به أي إدارة أميركية سابقة.
إن طرح إدارة بايدن للدولة المستقلة يأتي في إطار الترتيب لليوم التالي للحرب، والذي يقوم أساسًا على إطلاق يد الاحتلال في قتل وتشريد الفلسطينيين، ومحاولة القضاء على مقاومتهم أو دفعهم للاستسلام وفرض خيارات سياسية عليهم بسلطة لها مواصفات تتماهى مع أهداف الاحتلال، ثم يمكنها من كيان هزيل يؤدي إلى إنهاء القضية وفتح الباب على مصراعيه لتحالفات عربية مع الكيان تحت ستار التطبيع.
وفي غمرة ذلك، برز موقف لافت للمملكة العربية السعودية يطالب بوقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من غزة قبل الحديث عن دولة مستقلة وتطبيع، وهذا الموقف موجه بالأساس لحكومة نتنياهو، ورسالة لإدارة بايدن أن أي حل سياسي يجب أن يسبقه وقف الحرب.
كانت الخارجية الأميركية قالت في بيان: إن واشنطن حصلت على التزام من دول في المنطقة بمشاركتها في إعمار غزة بعد نهاية الحرب “إذا كان هناك مسار حقيقي لقيام دولة فلسطينية”!.
إنّ استمرار فشل الدول العربية في اتخاذ موقف حاسم ضد الكيان، مثل: قطع العلاقات ووقف التطبيع، أو اتخاذ إجراءات اقتصادية رادعة ضد الولايات المتحدة والدول الأوروبية الداعمة للاحتلال، هو ما يشجع الإدارة الأميركية للاستمرار في منهجها المعادي للشعب الفلسطيني، واستمرار التسويق لمهزلة الدولة المستقلة الذي يجب عدم التساوق معه كغطاء للعدوان، وستظل هناك مسؤولية قومية لوقف العدوان والانسحاب الإسرائيلي من غزة، وتوفير الدعم للشعب الفلسطيني لإعادة الإعمار، ودعمه في كل المجالات لتمكينه من استعادة وطنه المحتل، ودعم مقاومته في سبيل تحصيل حقوقه.
إن استمرار الحديث عن الدولة الفلسطينية فيما تستمر الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، ويستمر الرفض الإسرائيلي الصارم حتى لدولة فلسطينية منزوعة السلاح، هو ملهاة وخداع وامتهان لعقول الفلسطينيين والعرب، واستهتار بدماء الفلسطينيين.
ثم إن محاولة فرض الخيارات على الشعب الفلسطيني، وفرض سلطة محددة وتسليمها الدولة الموعودة، لن تحظى بالنجاح ما دامت المقاومة مستمرة، وما دام الفلسطينيون متمسّكين بخياراتهم الذاتية وسعيهم للتوافق على برنامج وطني فلسطيني تجتمع عليه قواهم الوطنية بعيدًا عن وصاية الاحتلال أو أميركا أو أي وصاية أخرى.
وهكذا، فإن مشروع الدولة الفلسطينية لن يكتب له النجاح سواء بالرفض الإسرائيلي أو بعدم تلبيته تطلعات الفلسطينيين بالصيغة التي تطرحها واشنطن.
وكما نجح “طوفان الأقصى” في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، فإن استمرار المقاومة وصمودها على أرضها، والتفاف الشعب الفلسطيني حولها، سيمكّن الفلسطينيين في النهاية من تقرير مصيرهم بأنفسهم والوصول لتحرير أرضهم، طال الزمن أم قصر.