تقنية الواقع الافتراضي تمكّن طلاب الطب من دخول غرف العمليات

شمسان بوست /متابعات:
لم تعد غرف العمليات حكراً على الجراحين ذوي الخبرة، ولا ساحات التدريب مقتصرة على القاعات التقليدية أو المحاكاة الجامدة، ففي السنوات الأخيرة، أخذ الواقع الافتراضي ينقل طلاب الطب إلى قلب المشهد الجراحي، حيث يمكنهم التدرب على أصعب الإجراءات وكأنهم يقفون فعلياً أمام المشرط والطاولة الجراحية.
الواقع الافتراضي لتعزيز المهارات الجراحية
في مطلع عام 2025، نُشرت دراسة علمية محكّمة بعنوان «استخدام الواقع الافتراضي لتعزيز المهارات الجراحية والمشاركة في التعليم الطبي في مجلة أبحاث الإنترنت الطبية (Journal of Medical Internet Research – JMIR)، وهي من أبرز المجلات العالمية في مجال التعليم الطبي الرقمي.
شملت هذه الدراسة مراجعة أكثر من 23 تجربة عشوائية محكمة، شارك فيها 1091 طبيباً وطالب طب، لتقييم مدى فعالية تقنيات الواقع الافتراضي في تطوير المهارات الجراحية مقارنة بأساليب التعليم التقليدية. وكانت النتيجة واضحة: الواقع الافتراضي لا يعلّم فحسب، بل يغيّر طريقة التعلم نفسها. فقد أظهر المشاركون تحسناً ملحوظاً في المهارات العملية والمعرفة النظرية، إلى جانب ارتفاع التفاعل والانخراط في التجربة التعليمية، مقارنة بالطريقة الصفّية أو المحاكاة التقليدية.
ويعكس هذا البحث توجهاً عالمياً متسارعاً نحو دمج تقنيات الواقع الافتراضي في تدريب الأطباء وطلبة الطب على الإجراءات الجراحية المتقدمة، ليس بوصفه وسيلة محاكاة فقط، بل منصّة تفاعلية قادرة على نقل الخبرة الجراحية من غرفة العمليات إلى أي مكان في العالم.
لقد تجاوزت تقنية الواقع الافتراضي دورها الترفيهي لتصبح اليوم أداةً تعليمية متقدمة في المجال الطبي، تتيح للمتعلمين خوض محاكاة واقعية للإجراءات الجراحية (Surgical Procedure Simulation) دون تعريض المرضى لأي مخاطر.
في السنوات الأخيرة، شهدت الأوساط الأكاديمية والطبية زيادة ملحوظة في الأبحاث التي تربط بين استخدام الواقع الافتراضي وتحسين الأداء الجراحي، سواء من حيث الدقة التقنية أو السرعة والقدرة على اتخاذ القرار.
وفي مراجعة منهجية حديثة نُشرت عام 2025، تبيّن أن الاتجاهات البحثية الحالية تتركز على تطوير أدوات محاكاة أكثر دقة للمهارات الجراحية الدقيقة، خصوصاً في مجالات مثل الجراحة التنظيرية (Laparoscopic Surgery) والجراحة العامة (General Surgery). كما أظهرت المراجعة أن المتدربين الذين استخدموا الواقع الافتراضي اكتسبوا مهارات عملية بسرعة أكبر، واحتفظوا بها لفترة أطول، مقارنةً بالطرق التدريبية التقليدية.
ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات يجب التعامل معها، مثل اختلاف أنظمة الأجهزة (Hardware Compatibility Issues)، والعبء المعرفي (Cognitive Load) على المتعلمين في المراحل الأولى من استخدام التقنية، بالإضافة إلى تكاليف البنية التحتية ومتطلبات الاتصال عالي السرعة بالإنترنت لضمان بث تفاعلي مستقر.
مشاريع بريطانية وأميركية رائدة
في خضم هذا التحول العالمي السريع في أساليب التعليم الطبي، برزت مبادرة بريطانية جديدة تعكس كيف يمكن للتقنيات الرقمية أن تعيد تشكيل ملامح التدريب الجراحي. فقد أعلن أحد الأساتذة البارزين في بريطانيا الأسبوع الماضي عن مشروع رائد يقوم على البث المباشر للعمليات الجراحية بتقنية الواقع الافتراضي (Live VR Surgical Streaming)، بحيث يتمكن طلاب الطب والمتدربون من مختلف أنحاء العالم من دخول غرفة العمليات افتراضياً ومتابعة تفاصيل الجراحة لحظة بلحظة، كما لو كانوا يقفون بجوار الجراح نفسه.
ما يميز هذه التجربة أنها لا تكتفي بعرض المشهد الجراحي فحسب، بل تتيح للمشاهدين استخدام أدوات الواقع الافتراضي للتفاعل مع المحيط، وتغيير زاوية الرؤية، والاقتراب من موضع العمل الجراحي، بل وحتى طرح الأسئلة على الفريق الطبي أثناء سير العملية. إنها تجربة تعليمية حية تنقل غرفة العمليات من مكانها المادي المحدود إلى فضاء عالمي مفتوح.
هذه المبادرة البريطانية ليست حالة منفردة، بل تأتي ضمن تيار عالمي متصاعد يربط بين التعليم الطبي والابتكار الرقمي، ففي الولايات المتحدة، طورت شركة أميركية متخصصة في تقنيات الجراحة الافتراضية منصة تفاعلية متقدمة تُعرف باسم إيمرتِك (Immertec)، تتيح للأطباء والطلاب دخول غرف عمليات افتراضية (Virtual Operating Rooms) والمشاركة في إجراءات جراحية عن بُعد، دون الحاجة إلى السفر أو الحضور الجسدي، مع توفير تجربة غامرة دقيقة تحاكي الواقع بكل تفاصيله.
كما أطلقت جامعات طبية عريقة مثل ستانفورد وهارفارد برامج تجريبية تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي في تدريب طلاب الطب على إجراءات متقدمة في جراحة القلب والعظام، وهي مجالات تتطلب دقة عالية ومهارات متراكمة لا يمكن اكتسابها بسهولة في القاعات الدراسية التقليدية. هذه البرامج تعزز فكرة أن التقنية لم تعد مشروعاً مستقبلياً، بل أصبحت جزءاً فاعلاً من منظومات التعليم الطبي المعاصرة في أرقى المؤسسات الأكاديمية.
أسماء علمية بارزة
ومن بين الأسماء البارزة التي تمثل هذا الاتجاه، يبرز البروفسور شافي أحمد (Professor Shafi Ahmed)، أحد الشخصيات المؤثرة التي تجمع بين الممارسة الجراحية والتعليم الأكاديمي والتقنيات الرقمية الحديثة. يشغل البروفسور أحمد منصب أستاذ في كلية الطب بارتس وكلية طب جامعة كوين ماري في لندن، كما يعمل أستاذاً زائراً في جامعة هارفارد.
وفي مقابلة نُشرت مؤخراً في مجلة الابتكار الطبية الأوروبية (European Medical Journal – EMJ Innov)، استعرض البروفسور أحمد رؤيته لمستقبل التعليم الجراحي، مؤكداً أن الواقع الافتراضي وتقنيات الهولوغرام (Hologram) ستجعل من الممكن نقل الخبرة الجراحية إلى أي مكان في العالم في الزمن الحقيقي، لتتحول العملية الجراحية من حدث محلي إلى منصة تعليمية عالمية تفاعلية.
بهذا التوجه، تتبلور ملامح جيل جديد من التدريب الطبي لا تحده الجغرافيا، ولا تعيقه جدران قاعة أو غرفة عمليات، بل يربط بين الخبرة السريرية والتكنولوجيا في فضاء تعليمي مفتوح للعالم بأسره.
ولم يعد تعليم الطب كما عهدناه في السابق. فقد بدأت جدران القاعات التقليدية تتلاشى أمام زحف تقنيات الواقع الافتراضي، لتتحول غرفة العمليات من فضاء مغلق لا يدخله إلا القلة، إلى عالم رقمي واسع يمكن لأي طالب أن يعبر إليه من أي مكان في العالم. هناك، يقف بجوار الجراح، يراقب أدق الحركات، يسمع التوجيهات الحية، ويشارك في تجربة تعليمية تفاعلية تتجاوز الزمان والمكان.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد تحديث في الأدوات، بل تغيير عميق في فلسفة التعليم الطبي ذاتها؛ من التركيز على الحضور الجسدي إلى بناء حضور معرفي تفاعلي، ومن التعلم داخل جدران محدودة إلى فضاءات مفتوحة للعالم كله. إنها نقلة من التعليم الذي يُلقى من منصة، إلى تعليم يُعاش من الداخل، وكأن الطالب يعيش التجربة لا يراقبها فقط.
وفي ظل هذا التسارع العلمي العالمي، يقف العالم العربي أمام مفترق طرق حاسم. فالسؤال لم يعد: هل سنلتحق بالركب؟ بل: هل سنكون من «صانعي هذا التحول؟». تمتلك المنطقة اليوم مقومات قوية من جامعات طبية واعدة، وبُنى رقمية متنامية، ورؤى استراتيجية طموحة، مثل «رؤية السعودية 2030»، التي تجعل من التحول الرقمي أحد أعمدتها الرئيسية. إن الاستثمار في هذه التقنيات لا يعني اللحاق بالآخرين فحسب، بل يعني كتابة فصل جديد بأيدينا في مستقبل التعليم الطبي.
وكما قال أبو العلاء المعري: «وإنّي وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ… لآتٍ بما لم تستطِعْه الأوائلُ» فبالعلم والرؤية والعزيمة، يمكن لطلاب الطب العرب أن يصبحوا جزءاً فاعلاً من ثورة تعليمية عالمية لا تعترف بالحدود، وأن تتحول غرف العمليات الافتراضية إلى جسور تربط العقول، لا المسافات. إنها بداية مرحلة جديدة، حيث لا مكان للمتفرجين… بل للمبادرين الذين يصنعون المستقبل بأدواته، لا ينتظرونه.



